الوظيفة الأحلى في العراق: تربية النحل في سهول نينوى

نينوى، 2019، فرمان يستعرض العسل المنتج من خليته، تصوير UNDP

برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق UNDP

"ملعقة عسل صغيرة كل يوم تضمن تمام الصحة"، هذا ما يقوله فرمان وهو يراقب شلال الذهب وهو يُسكب على الطبق. وبينما كان يصب العسل، تقدم لنا زوجته خامي وابنته زينة قطعاً من الخبز كي نتذوقه. "عسل بشهده"، يقول فرمان ونحن نراقب قطع العسل تتلألأ في شمس الظهيرة.

يملك فرمان وخامي وزينة 22 خلية نحل في منزلهم في القوش في سهل نينوى شمال العراق، وينتجون عسلاً يكفي لتغطية جميع نفقات معيشتهم. يوضح فرمان: "أبيع أيضاً خلايا جديدة لزملائي مربي النحل، فنقسم كل سنة خلايانا الحالية إلى أخرى جديدة، وتتابع الخلايا نموها".

وُجدت تربية النحل في العراق بشكل أو بآخر منذ 8,000 عام. وتضم الألواح السومرية القديمة وصفات طبية باستخدام العسل لعلاج التهابات الجلد والقروح وأمراض أخرى.

وها هي تربية النحل تعود اليوم بعد تراجعها بشكل حاد في القرنين التاسع عشر والعشرين، والسبب الرئيسي لتراجعها هو توالي النزاعات والأمراض والتشرد وزيادة استخدام المواد الكيميائية في الزراعة. ومع أن تربية النحل قطعت شوطاً طويلاً، وانتقلت من خلايا الطين والقش إلى رفوف الخشب والبلاستك الحديثة، فقد ظل عدد مربي النحل المحليين الذين يبيعون كميات تجارية متدنياً.

وعلى الرغم من إصابة خامي بالحساسية من النحل، الا أن ذلك لم يمنع الأسرة من العمل في تربية النحل. تقول خامي: "التعامل مع النحل مسألة نفسية. ما أن تتغلب على الخوف حتى تشعر بالطمأنينة مع النحلات، فهي تحس بك وبمشاعرك".

1583530945658
نينوى، 2019، فرمان يتعاون مع ابنته زينة لتربية نحل العسل، تصوير UNDP

حصل فرمان وخامي وزينة على خمس خلايا عام 2017 من خلال برنامج تدريب مهني في المنظمة غير الحكومية "مشروع القرية الصغيرة في زاخو" بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والحكومة الألمانية. اختار البرنامج نحو 200 أسرة في أنحاء سهل نينوى ودهوك، وزعت عليهم خلايا نحل مع ثياب وأدوات للسلامة، وتلقوا تدريباً على كيفية تربية النحل، وإدارة العمل، والتسويق بعد جني العسل. وقد اختيرت الأسر استناداً إلى تقييم الاحتياجات المالية واهتمام ودوافع المستفيدين، وهم من أفراد المجتمع المضيف الضعفاء والعائدين والنازحين الذين ما كانوا ليتمكنوا من الحصول على فرص عيش مستدامة لولا هذا العمل.

جاء هذا المشروع في وقت اقترب فيه التحرير من تنظيم الدولة الإسلامية من نهايته، وبدأ النازحون بالعودة إلى منازلهم، وغالباً إلى مجتمع لم يبق فيه إلا القليل من المنشآت وفرص العمل. وقد وفرت مشاريع زراعية صغيرة، مثل تربية الدواجن وزراعة الخضار وتربية النحل، فرصاً للأسر لا تقتصر على كسب الدخل، بل وإعادة التواصل مع الجيران، وملكية إنتاج الغذاء، وتمكين الأفراد، مع توفير الفوائد الغذائية.

يواصل النحل نشاطه في سهول نينوى التي تغطيها الخضرة. وخلافاً لنحل سنجار وشومان المحب للمرتفعات، ينتج النحل هنا عسلاً أقل اعتماداً على الأزهار، لكنه لا يقل حلاوة، حيث يحصل على غذائه من حدائق الخضار.

hang-4
نينوى، 2019،  خامي تعاني من الحساسية اتجاه النحل، تصوير  UNDP

حماية الخلايا

لم نمض سوى مسافة قصيرة بين القرى حتى سمعنا طنين النحل من جديد. تقول فريدة، وهي أم لطفلين: "بدأنا بخمس خلايا ولكننا الآن نملك 15 خلية". وتوضح: "أُطعمهم غبار الطلع وأقدم لهم الماء. ويساعدني الصغيران أيضاً".

وتكمل فريدة وزوجها أمين وطفلاهما هذا العمل بتربية الدواجن وزراعة الخضراوات على نطاق ضيق. تبتسم فريدة وتقول: "نحب أن ننتج عسلنا أيضاً بأنفسنا".

راقبنا الأسرة وهي تتنقل من خلية إلى أخرى تبحث عن دبور كبير سمع طنينه قبل قليل. يقول أمين: "الدبابير أخطر عدو للنحل. ستقضي عليه فريدة". يصرخ بينما تمسك هي بمقشة صغيرة تضرب بها الدبور. ويتهاوى على التراب قبل أن يدخل الخلية بلحظات باحثاً عن ملكة.

1583530351746
نينوى، 2019، منتوج خلايا العسل يكفي لتغطية جميع نفقات معيشتهم، تصوير UNDP

ملتزمون بمزرعة النحل

يختلف محصول العسل عند كل مربي نحل من عام لآخر. لذلك تكثر رؤية أسر تضيف إلى تربية النحل نشاطات زراعية. ويواجه مربو النحل تحديات عدة، لا تقتصر على الدبابير. ونتيجة لعملهم في أراضٍ زراعية تكثر فيها المواد الكيميائية الضارة المستخدمة لطرد الحشرات، وأكوام النفايات التي تطرحها أحياء المدن وتجذب النحل فيتعرض للأمراض والحشرات المفترسة، يبدع مربو النحل في ابتكار حلول لذلك.

يوضح فرمان: "لاحظت أن نحلاتي تختفي عصر كل يوم. ولم أعد أراها تطير في الحقول. تبعتهم ذات يوم فشاهدتهم يتغذون على النفايات. كان هناك دكان يرمي نفايات عضوية في الشارع يومياً فيجذب النحل والدبابير لتتغذى عليها. هذا خبر سيء بالنسبة للنحل، ليس لأن الدبابير ستتمكن من قتلهم بسهولة أكبر فقط، بل لأن العسل لن يكون مذاقه طيباً".

لجأ فرمان إلى تغطية هذه النفايات بالتراب، ليبعد النحل ويعيده إلى الحقول باحثاً عن غذائه. "أريد أن يكون عسلي لذيذ الطعم ليعود زبائني لشرائه من عندي".

لكن كيف يصل مربو النحل إلى السوق؟ أسر كثيرة ترى أن أفضل طريقة لبيع العسل هي عبر تناقل أخباره شخصياً. يوضح أمين، وهو بائع عسل آخر من "مشروع القرية الصغيرة في زاخو" إحدى مبادرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2017: "الجميع في مجتمعاتنا الصغيرة يعرفون من أين بإمكانهم شراء أفضل عسل. أنا ببساطة أتلقى مكالمات من الجيران وأبيعهم العسل". يفتخر أمين بامتلاكه 24 خلية نحل اليوم نشأت من خمس خلايا حصل عليها قبل نحو ثلاث سنوات. "يباع عسلنا بشكل جيد لأن طعمه لذيذ. إنها الوسيلة الأفضل لتسويقه. أن نبيع عسلاً بجودة ممتازة. لقد بنينا شبكات لبيع العسل لسكان الأحياء القريبة".

cq5dam.web.1280.1280
نينوى، 2019، فرمان وعائلته امام خلية تربية النحل، تصوير UNDP

الخطة التالية في سلسلة القيم

يواصل مربو النحل في هذا المشروع نجاحهم منذ عام 2017. وهم يزيدون عدد الخلايا كل سنة فيزيد دخلهم. ومع أن كثيرين منهم لا يزالون يعملون على نطاق ضيق ومحلي، فإن إنتاجهم يزداد مع تزايد عدد الجيران والأصدقاء. ومع ازدياد الاهتمام والخبرة الفنية فإن لتربية النحل في العراق مستقبل باهر.

 

  • FB
  • Instagram
  • Twitter
  • YT